يختصر الهاتف المحمول أيفون أو سامسونغ أو جالكسي الفرق الشاسع بين الاقتصاد المعرفي والاقتصاد الريعي, فكل جهاز من هذه الأجهزة لا تتعدى تكلفته دولاراً واحداً من الموارد الطبيعية – عدة غرامات من المعادن وسنتيمترات مربعة من الزجاج وكمية بسيطة من حبيبات البلاستيك – (اقتصاد ريعي), ولكنه يباع بألف دولار؛ تشتري عشرات براميل النفط الخام .. الفرق بين القيمتين 999 دولاراً هو قيمة المعرفة التي ينتجها العقل البشري ولا تنتجها الطبيعة (اقتصاد معرفي).
قد يقول البعض هذا استغلال تمارسه الدول المتقدمة التي اقتصاداتها تتحول تدريجياً من اقتصادات صناعية إلى اقتصادات معرفة للدول المتخلفة التي لاتزال اقتصاداتها ريعية. نقول: ربما يصرف هذا الادعاء في مجال السياسة أو الاقتصاد السياسي وخاصة السياسة الداخلية للدول المتخلفة بمنحها المزيد من قوة تعطيل العقل البشري لديها, وتزييف الوعي الجمعي أو استباحته أكثر فأكثر, لكنه لا يصرف البتة في مجال الاقتصاد الذي يعتمد على الوقائع والحقائق الملموسة. وعوضاً عن التمادي في ادعاءات كهذه لا تسمن ولا تغني من جوع, بل هي الجوع ذاته, علينا الاعتراف بالوقائع والحقائق كنقطة انطلاق لتحرير العقل البشري من أسره لعله ينتج لنا اقتصاداً وفق معايير اقتصادية علمية وليس وفق معايير سياسية استباحية .
إن الرهان على ريوع الثروات الطبيعية لإنقاذ الاقتصاد من اختناقاته لا ينتج عنه سوى إيهام الوعي الجمعي, وهو أصلاً وعي زائف في منظومات الاستبداد بإمكانية بقاء هذه المنظومات وتجديد فرص تطورها. إلا أنه في الوقت ذاته يؤدي إلى تدمير الذات الاقتصادية بإفراغها من مضامينها الوطنية وتحطيم قواها المنتجة وبصفة خاصة قواها البشرية الذكية والموهوبة والمبدعة القادرة دوماً على فعل التغيير المطلوب في بنية المجتمع واقتصاده ونظامه السياسي.
ما من شك في أن جميع الادعاءات التي ساقها النظام السوري في هذا الشأن من مناجم الألماس في ثمانينيات القرن الماضي إلى حقول النفط والغاز في قارة ودير الزور وفي المياه الإقليمية التي تجعل من سورية أغنى بلد نفطي إلى احتياطي السيليكون الأضخم في العالم في البادية السورية, وربما في قادم الاختناقات الاقتصادية يتحفنا بأضخم احتياطي من اليورانيوم والبلاتين والسردين وسمك التونة ؟؟!!!. هي ادعاءات من قبيل ذر الرماد في العيون وزرع آمال كاذبة في نفوس السوريين تعدهم بتحسين أوضاعهم المعيشية بينما تستمر الاختناقات وتتعاظم آثارها المدمرة, ويستمر الفساد والاستحواذ ونهب الإمكانات والمقدرات.
لقد تبخر آنذاك الحلم السوري بالماس وأمطر صفيحة سمنة وعلبة محارم وكيس إسمنت على دفتر العائلة بينما كانت تتكدس مليارات الدولارات المسلوبة من جهد وعرق السوريين, في حواضرهم ومن مواضيهم, في حسابات خاصة لدى البنوك الأجنبية. أما عن النفط والغاز في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط فقد كشفت الدراسات والمسوحات الجيولوجية وبخاصة الصادرة عن المعهد الأمريكي للمسح الجيولوجي عن أن المنطقة المسماة “حوض الليفانت” تشبه إلى حد ما مثلث قاعدته في المياه الإقليمية الإسرائيلية والمياه الإقليمية المصرية شمالاً، حيث يتركز معظم مخزون النفط والغاز، ويمتد المثلث قرب لبنان وينتهي عند الساحل السوري باتجاه قبرص. أي أن حصة سورية من مساحة هذا المثلث هي الأقل بين البلدان الأربعة وأخذت امتيازها الشركات الروسية ثمن تدخل موسكو في المسألة السورية. وكل ما يشاع عن بحر النفط والغاز غير المستخرج في قارة ودير الزور وغيرها من اليابسة السورية ما هو سوى ترهات تثير التساؤل في وجه من يدعيها. وطالما تمتلك سورية هذه الثروة لماذا لم تستثمرها الحكومة, وبأمر ممن, ومن هو المستفيد ؟. أغلب الظن أن الهدف من وراء ذلك هو تمييع السياسة النفطية وحجب بياناتها عن الشعب السوري. وفيما يتعلق بالسيليكون فإن الدراسات الجيولوجية تؤكد وجوده في قشرة الأرض بنسبة تزيد عن ثلاثين بالمائة وبالتالي فهو مورد طبيعي لا تخلو دولة منه تقريباً, عدا عن أن استعمالاته ترتبط بصناعة المعرفة التي يفتقدها الاقتصاد الريعي وبكميات ليست كبيرة كما النفط والغاز والمعادن التي تدخل في صناعة السلع.
إن الاعتماد على قوى الطبيعة ومواردها ليس سوى بيع أوهام الاقتصاد الريعي الذي لا يخلق دولة عصرية باقتصاد دينامي متطور فحسب بل يساهم في إقصاء الميزات النسبية التي يتمتع بها الاقتصاد السوري, تنوع موارده وموقعه الجيواقتصادي ودينامية الإنسان السوري التشغيلية. وفي جميع الأحوال قضت النزعة الريعية في ذهنية النظام السوري الاقتصادية على إمكانية استغلال هذه الميزات, فالموارد غير الطبيعية (البشرية والرأسمالية) تعرضت لاغتراب داخلي وخارجي وتبديد ممنهج بفعل السياسات الاستحواذية والاستباحية, وتم تعطيل الموقع الجيواقتصادي بفعل هلامية الهوية الاقتصادية ورخاوتها وسياسة معاداة الجميع وصداقة الجميع من فوق الطاولة ومن تحن الطاولة, وتعطيل الدينامية التشغيلية للسوريين بفعل منظومة الاستبداد والفساد.
إن تحرير العقل الجمعي من أوهام الاقتصاد الريعي وإطلاق إمكانات الميزات التنافسية النسبية للاقتصاد السوري هي بداية عملية تغيير واسعة وجدية تطال مختلف نواحي الحياة في سياق المشروع الوطني السوري الذي لا محيد عنه لقيام دولة عصرية بديناميات متجددة في اقتصاد عقلي.
* د . مهيب صالحة- كاتب وأكاديمي سوري