بعد أيام طويلة من المصادمات في القدس، بسبب إخلاءات إسرائيلية لعائلات فلسطينية تحمل الجنسية الإسرائيلية، تبعتها صدامات في عدة مدن عربية – إسرائيلية، ومجمعات فلسطينية في الضفة الغربية، تضامناً مع المقدسيين العرب، وتدخل المستوطنين في العراك الشارعي، تدخلت حماس من غزة وأطلقت صواريخها على إسرائيل فغيّرت مسار المواجهة، من مجتمع مدني عربي داخل إسرائيل ومدنيين فلسطينيين يتواجهون مع السلطات الإسرائيلية وبعض المدنيين، وهذا ملف لا يقود إلا إلى العودة لمفاوضات ما، يحتل الفلسطينيون موقع المستضعف إلى مكان آخر.
ساحة أخرى فجرتها حماس من دون تفويض فلسطيني أو عربي، أي حرب صواريخ ومسيرات تستهدف إسرائيل، وتجلب موجات من القصف الجوي الإسرائيلي بالقاذفات والدرونات. النتيجة؟ قتلى بالمئات في غزة، والعشرات داخل إسرائيل. ودمار كبير في الحزام الفلسطيني الجنوبي، في المؤسسات والمباني.
وماذا يأتي بعد ذلك؟ دعوات “للتهدئة” طبعاً. وبعدها وقف إطلاق نار تنظمه مصر كالعادة، لأنها الدولة العربية الوحيدة على حدود غزة وقيادتها خير حكم بين الأطراف، ولها وصول عميق في واشنطن.
أما بعد تثبيت وقف القصف المتبادل بين حماس وإسرائيل، فتبدأ نغمة المساعدات، والكلام الجميل عن “ضرورة مفاوضات جدية الآن كي لا تُعاد الكرة”. ويطبّل الطرفان لانتصاراتهما، العسكرية والسياسية، ويشكران من ساعدهما، أكان إيران أو أميركا.
أما بعد، فماذا سيحصل؟ إن لم يبدأ حل حقيقي ثابتا وواضح للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو ينعم الفلسطينيون بدولة يديرها زعماء مسؤولون وغير متطرفين، ومدعومة من منظومة إقليمية قادرة، ومجتمع دولي مهتم، وفي المقابل يتبدد قلق المدنيين الإسرائيليين من الأخطار الأمنية، والأهم أن ينكب الجميع، فلسطينيون وإسرائيليون وعرب على التنمية والازدهار لمجتمعاتهم، فان ما بعد “التهدئة” ستأتي عاصفة أخرى، وأخرى إلى ما لا نهاية. هذا ما رأيناه في 2014 وسنوات سابقة.
ألغام السلام
مما هو واضح أن أي صراع أثني قومي جغرافي، والمواجهة الفلسطينية الإسرائيلية ليست وحيدة في العالم، ما لم يأت بحل جذري ودائم لها ستستمر، والأخطر أن قوى كثيرة وخطيرة ستستعمل هكذا صراعات وتجّيرها لمصالحها وتدفعها باتجاهات نقيضة للحلول المرجوة، وهذا ما حدث ويحدث للمسألة الفلسطينية، فهناك ملف قومي لشعب يحاول الوصول إلى دولته فلسطين، وثمة نظام يعمل على الإمساك بهذا الملف، ويتجه به كسلاح لإقامة سبطرة إقليمية، ونعني به، نظام الجمهورية الإسلامية الخمينية.
فالفلسطينيون عبر سلطتهم الوطنية فصائلهم يجهدون للتوصل إلى أهداف وطنية معينة، وهي إقامة دولة على أراضي ما قبل حرب1967 أي كامل الضفة وقطاع غزة، وكامل القدس الشرقية.
أما الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة فاختلفت حول المساحة التي يجب التخلي عنها. حكومات اليسار أرادت انسحاباً أوسع من الضفة.
حكومات الليكود تمسكت بجزء أكبر من الضفة، وأصرت على الجولان وكل القدس، ولكن كل أحزاب إسرائيل اتفقوا على أن تكون غزة بكاملها فلسطينية، واستمر الخلاف لمدة 30 عاماً، على الرغم من اتفاقات مدريد وكامب دايفيد وغيرها.
ولكن الطرفين حسما أهم المبادئ، ألا وهو أن الحل بدولتين، إسرائيل وفلسطين.
وهذا ما حسمه المجتمع الدولي أيضاً، إلا أن قوى رفضية بزغت لدى الجانبين، في إسرائيل بعض القوى القومية المتشددة تريد كل الضفة، ولا تسويات في القدس، أما في الجانب الفلسطيني فصعدت حماس والجهاد الإسلامي وفصائل راديكالية أخرى، ترفض الحل على أساس دولتين، وتسعى إلى قيام دولة إسلاموية واحدة من النهر إلى البحر، كجزء من “الخلافة الآتية”.
اليمين القومي الإسرائيلي له تأثير على المحافظين، بما فيه الليكود، ولديه القدرة على الضغط على دولة إسرائيل لتتمسك بإبقاء مناطق ديمغرافية داخل الضفة وتدعم تنميتها، مما يثير رفض الفريق الفلسطيني بأكمله. إذاً بالتلخيص الشديد، الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وقبله الحروب العربية الإسرائيلية كانت “حرب حدود”.
وجاءت معاهدات السلام والاتفاقات لتنظم الخروج من انعدام الحدود الواضحة إلى تحديدها تدريجياً، فالعرب ومنظمة التحرير اعترفوا بحدود 67، لكنهم رفضوا التنازل عن أي مساحة إضافية. إسرائيل اعترفت بأن غزة هي فلسطينية كاملاً، لكنها قررت أن بعض أراضي الضفة والجولان والقدس الشرقية هي إسرائيلية.
إلا أن انحسار “حرب الحدود” بين إسرائيل والعرب، والانتقال إلى “تفاوض الحدود” أي معركة سياسية، ديبلوماسية، قانونية، بين الأطراف لإنهاء الصراع سلمياً، فسح المجال لثغرة أمام “حرب وجود” جديدة أتت من أطراف طرفي الصراع، أي من أجزاء من اليمين القومي الإسرائيلي، ومن المعسكر الإسلاموي الراديكالي، أو ما يعرف “بالجهادي” في الغرب.
“حرب وجود”
ثمة جزء من الحركة الاستيطانية اليهودية تعتبر أن إسرائيل التاريخية يجب أن تعود على معظم أراضي الضفة تحت اسم يهودا والسامرة، إلا أن أكثرية الأحزاب السياسية الإسرائيلية من يسار ويمين تعتبر أن هناك صفقة لا بد من أن تتم للوصول إلى سلام دائم، أي أن ضم كل الضفة أو معظمها مستحيل لأسباب ديمغرافية.
لذا فأكثرية إسرائيل ضد الضم الشامل، ومع تقسيم الضفة، إلا أن أي ضم لأراض في الضفة والجزء العربي من القدس، يعتبره العديد من الفلسطينيين إلغاء عملياً لوجود “دولة الفلسطينية”. هذا الخلاف لا يزال قائماً بين الطرفين منذ حرب 1967، على الرغم من صفقات سلام عدة.
وهكذا “صراع اثني” Ethnic Conflict حول أراض قومية، ليس أول ولا آخر صراع من هذا النوع. فمن إيرلندا إلى كشمير إلى نيجيريا وكردستان وناغورنو قره باغ والباسك والبربر وأوكرانيا وغيرها، العالم يكتظ بصراعات مثيلة. الصدام الإسرائيلي – الفلسطيني هو كغيره حول من يسيطر على أية أراض وتحت أية سلطة.
*وليد فارس- الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية
نقلاً عن موقع اندبندنت عربية