المواطن السوري اليوم، ولهول ما يعيشه من تفقير وتجويع، لا يجد نفسه بعيدا عن عبارة كان قد دونها مواطنه البديري الحلاق في يومياته، منذ ما يقارب القرنين ونصف القرن، بفعل الحصار الجائر والناس منتظرة الفرج .
“كتاب لا يخطر على البال ولا على الخاطر”، هكذا وصف أحد مؤرخي دمشق المحدثين مدوّنة ظلت ضائعة لفترة طويلة من الزمن، قاربت القرن ونصف القرن.. وكان ذلك عام 1959 في طبعة جديدة ومنقحة حملت توقيع الشيخ محمد القاسمي، بعد أن وصلت، بطريقة ما، إلى الشيخ طاهر الجزائري.. وها نحن نقف عند النسخة المنقحة في طبعة كانت جديدة آنذاك، بعد أن حققها وشذّبها ثم نشرها أحمد عزت عبدالكريم.
إنها مذكرات البديري الحلاق (1701 ـ 1762)، الذي استأنست واستندت واقتبست من يومياته شتى كتب التوثيق ودراما المسلسلات والأفلام مستقية منها تفاصيل دقيقة للأحداث اليومية في منتصف القرن الثامن عشر. على مدى 21 عاما أي من 1741 وحتى 1762 ظل الرجل الدمشقي البسيط، المتحذلق والظريف وشبه الأمي، يؤرخ للمدينة كما لم يؤرخ لها أحد من قبله، ويدون لكل اختلاجاتها وحركاتها وسكناتها وانتكاساتها بشكل مدهش.. الأمر الذي نافس فيه أحد أشهر مؤرخيها، وهو ابن عساكر (1105 ـ 1176) الذي التصقت به هذه المدينة والتصق بها.
كانت عائلة البديري تمتهن الحلاقة وكانت تقطن ضاحية القبيبات في حي الميدان بدمشق. عمل البديري كحلاق في محل صغير قرب قصر أسعد باشا العظم، حاكم دمشق حينذاك.
ومثل كل حلاق مهذار وثرثار وحاضر النكتة والبداهة، دوّن البديري كل شاردة وواردة، وحتى لم ترد، في دكانه الصغير.. وبمتعة آسرة في السرد والتعليق، وحتى المبالغة.. من منا يلوم حلاقا على مبالغاته، ولا يطرب له وهو يقص الشعر والحكايات؟
بدأ البديري بتدوين وتسجيل الأخبار والحكايات بنفس مهارة مراسل صحافي في أيامنا الحالية، وهل غير الحلاق أقدر على السرد، وحتى التحليل، من خلال كل من يقصد محله من زبائن صادقين وكذابين وثرثارين ومفترين.. إنه وكالة أنباء من نوع خاص، أضف إليها بعض التوابل الشامية على غرار ما شاهدناه في مسلسل “باب الحارة” وغيره من الأعمال التي اتكأت على كتاب “يوميات البديري الحلاق”.
كتب البديري الحلاق بخطه “المفشكل” وفق التعبير الشامي، وبكل ما أوتي من أخطاء إملائية ونحوية، وطرافة في التعبير والتشبيه، كل ما مر بدمشق من أحداث في تلك الفترة التي كان يجثم فيها الأتراك العثمانيون على صدر مدينته، ودوّن ما لا يمكن لعتاة المؤرخين تدوينه، فسلب ألباب كل من قرأوه، وترحموا على موسه ومقصه ولسانه في ذلك الصالون الدمشقي الذي يختصر المنطقة بأكملها.
كتاب “يوميات البديري الحلاق”، وحتى في نسخته “السياحية” الحديثة، لم يفقد جاذبيته ونكهته وطرافته، فكأنما أنت تستمع إلى واحد من “معتقي الشام” على شاكلة الممثلين الشعبيين رفيق سبيعي، سليم كلاس وياسر العظمة، في الدراما الشعبية السائدة منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
لم يفقد هذا الكتاب بريقه بفضل ما يزخم به من طرافة وغرابة الرواية، وما يوثق له من أحداث لم يتعمد صاحبها ولم يدّع التحليل والحكم على الأحداث بل تركها تنساب كجدول رقراق من جداول نهر بردى الدمشقي الذي قال ماؤه وهو يغلي، على لسان شامي معتق “أصل البلاء مني، في الوادي وجريت، كل عود سقيته، بنارو اكتويت”.
يرصد البديري الحلاق في كتابه الذي يجاور ويحاور أمهات الكتب والمراجع التاريخية التي ترصد تلك الفترة، حقبة من تاريخ دمشق التي عانت الكوارث الطبيعية والوبائية والسياسية، وكثيرا ما كان يظهر بمظهر المؤرخ المحايد والمهتم بالأحداث وحدها دون الحكم عليها.. ألم يلقن البديري الحلاق المدونين القدامى والمحدثين درسا في واجب رصد الأحداث دون التعليق عليها؟
القيمة التي تضاف إلى هذا الكتاب المبهج، ليست في التأريخ والتوثيق فقط بل بالقيمة الوجدانية ذات النكهة الشعبية، والتي تستمتع حتى بأخطائها الإملائية.. فمن هذا الفهلوي الذي حاول تشذيبها وتهذيبها من تلك الأخطاء التي تزيد الكتاب سحرا، وتجعل كلامه “يجلّ على الكلام”؟
نقل البديري ما عانته بلاد الشام من ظلم العثمانيين وجبروتهم بمنتهى الصدق والأمانة دون انحياز سياسي أو حزبي على الطريقة الحديثة. ويتحدث عن المجاعات والأوبئة وسنوات العطش وويلات الحروب، وكأنه يتحدث الآن.
والجدير بذكره أن كتاب البديري أقرب للتقارير الإخبارية منه لكتاب التاريخ فهو يذكر الحوادث جميعها من سياسية واقتصادية واجتماعية. يتعرض لولاة دمشق وسياستهم في إدارة البلاد، ويذكر العسكر من “انكشارية” و”دالاتية” و”قبيقول” وغيرهم والصراعات في ما بينهم.
كتاب “حوادث دمشق اليومية”، التسمية المعروفة للنسخة الشائعة من كتاب البديري الحلاق، تعرض للكثير من التحريف والتزوير كما يقول بعض المحققين، خصوصا في نسخته التي ظهرت بعد ما يقارب القرن ونيف من الاختفاء، ففي مقارنة بين النسخة الأصلية الوحيدة للمخطوط الموجودة في مكتبة “تشيستر بيتي”، وتنقيحات محمد سعيد القاسمي، ستُظهر “مجزرة فكرية وتاريخية وأخلاقية” كما تقول الباحثة دانة السجدي الأستاذة المشاركة في التاريخ الإسلامي بجامعة بوسطن الأميركية، في كتابها “حلاق دمشق.. محدثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني”، الذي ترجمته سرى خريس، وتعزو السجدي ذلك إلى العجرفة الاجتماعية للمدقق وانحيازه إلى السلطات العثمانية وممثليها من آل العظم وورثتهم، ما جعله يزيل أي نبرة تذمر تجاه الحكام من اليوميات، وتقول “التغييرات التي أجراها القاسمي لم تكن لتحسين لغة الكتابة وأسلوبها، لكن ثمة إرادة لتحويل النص من بنيته الأصلية إلى تأريخ منظّم يعنى بالسلاطين والولاة، ما أدى إلى تجريد النص من فحواه السياسي الأصلي، وتجريد الحلاق من سلطته الاجتماعية أيضا، حيث تم إسكات صوته وتغيير لغته لدرجة أصبح في أحسن الأحوال خلفية ظريفة”.
تموز نت