بعد هجمات عسكرية عدة انتهت باتفاقات تهدئة، تبقى أجزاء واسعة من محافظة إدلب ومحيطها في شمال غرب سوريا المعقل الأبرز الأخير لفصائل جهادية وأخرى معارضة للحكومة السورية، وسط مخاوف من تحولها إلى قطاع غزة جديد.
ويقول الخبير في الجغرافيا السورية “فابريس بالانش” لوكالة فرانس برس إن الهيئة والفصائل تسيطر اليوم على ثلاثة آلاف كيلومتر مربع، مقارنة مع تسعة آلاف كيلومتر مربع عام 2017.
وتخضع المنطقة اليوم لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) وفي أجزاء كبيرة منها لنفوذ تركي، وقد شهدت تدفق أكبر موجات من النزوح في العالم إليها.
وتحظى محافظة إدلب بأهمية استراتيجية، فهي تحاذي تركيا التي باتت تتمتع بنفوذ كبير داخل سوريا بعد دخولها على خط النزاع من منطلق دعم المعارضة، من جهة، ومحافظة اللاذقية، معقل الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد من جهة ثانية.
وتقع مدينة إدلب، مركز المحافظة، على مقربة من طريق حلب دمشق الدولي الذي شكل لسنوات هدفا لقوات الحكومة إلى أن تمكنت إثر هجمات عدة من استعادته كاملا.
وانضمت إدلب سريعا إلى ركب الاحتجاجات عند انطلاقها ضد الحكومة السورية بدءا من مارس 2011 وفي العام 2015 سيطر عليها ائتلاف فصائل معارضة ومقاتلة بينها جبهة النصرة آنذاك قبل فك ارتباطها عن تنظيم القاعدة.
لكن ومنذ العام 2019، باتت المحافظة ومناطق محاذية محدودة من محافظات حماة وحلب واللاذقية تحت السيطرة الفعلية لهيئة تحرير الشام، قبل أن تتقدم قوات الحكومة في جنوبها تدريجيا بعد عمليات عسكرية كان آخرها في نهاية ديسمبر 2019.
وتقلصت بالتالي مناطق سيطرة الهيئة إلى أقل من نصف مساحة إدلب.
ومنذ الهجوم الأخير، يسري في محافظة إدلب اتفاق تهدئة برعاية روسية تركية
وتتحكم هيئة تحرير الشام بتلك المناطق، وتتولى من خلال مؤسسات مدنية وأجهزة أمنية وقضائية خاصة بها تنظيم شؤون نحو ثلاثة ملايين نسمة، غالبيتهم من النازحين.
وتجني الهيئة عائدات من حركة البضائع عبر المعابر مع كل من مناطق سيطرة الحكومة وتركيا.
ويبلغ عديد مقاتليها نحو عشرة آلاف، وفق تقرير حديث للأمم المتحدة يشير إلى أن الهيئة تحتكر توزيع الوقود، وتبلغ قيمة أرباحها نحو مليون دولار شهريا.
وتتحكم الهيئة أيضا بتوزيع المساعدات الإنسانية وتصادر جزءا منها لدعم شبكاتها الزبائنية.
وتنتشر في المنطقة أيضا فصائل جهادية متحالفة مع الهيئة أو على خلاف معها، وأخرى إسلامية أو أقل نفوذا، تدعمها أنقرة وتشهد علاقتها مع الهيئة توترا نسبيا.
واستقطبت إدلب خلال النزاع مقاتلين يحملون جنسيات عدة، من فرنسا وبريطانيا ودول القوقاز.
وبين الفصائل الجهادية، تنظيم “حراس الدين” المرتبط بالقاعدة وينضوي في صفوفه نحو 2500 مقاتل وفق الأمم المتحدة. ويضم مقاتلين سوريين وأجانب سبق أن قاتل بعضهم في العراق وأفغانستان.
وينتمي ما بين ثلاثة و4500 جهادي إلى الحزب الإسلامي التركستاني، وغالبيته من أقلية الأويغور في الصين.
أما الفصائل الأخرى فينضوي معظمها ضمن “الجيش الوطني” الذي شكلته أنقرة من فصائل موالية لها في شمال سوريا.
بعد كل هجوم كانت تشنه قوات الحكومة كان يتبعه اتفاق تهدئة برعاية روسيا وأحيانا إيران الداعمتين لدمشق، وتركيا، ويستمر لفترة معينة إلى أن يعاد تحريك لعبة الشطرنج في سوريا.
وتنشر تركيا الآلاف من قواتها في إدلب. وخلال الهجوم الأخير الذي سبق اتفاق التهدئة الساري حاليا، وجدت قوات النظام نفسها، بعد طرد الفصائل المقاتلة من بعض المناطق، في مواجهة مع القوات التركية أدت لسقوط قتلى من الطرفين.
ويقول دبلوماسي غربي لفرانس برس إنه خلال وقف إطلاق النار الذي ظن كثر أنه سيسقط كما الاتفاقات التي سبقته، تورطت تركيا بشكل كبير في إدلب عبر نشر نحو 15 ألف جندي.
ويرى أن تركيا التي تستضيف نحو أربعة ملايين لاجئ سوري وتخشى موجة جديدة من النزوح إليها، وستقف بالمرصاد لأي هجوم جديد، وهذا يعني أن الرهانات السياسية باتت أكثر أهمية، مقابل تراجع احتمال العمل العسكري.
ولا يعتقد الدبلوماسي أن مستقبل إدلب سيبقى كما حاضرها، أي منطقة محاصرة مجهولة المصير تسيطر عليها مجموعات جهادية.
ويقول هذا ليس السيناريو الأكثر ترجيحا، معددا عوامل عدة تهدد الوضع القائم بينها وجود ملايين النازحين، والقضايا الإنسانية، والتهديد الذي تشكله بعض المجموعات الإرهابية على تركيا والغرب.
وتقول الباحثة في مجموعة الأزمات الدولية دارين خليفة لفرانس برس إنه من شأن موجة جديدة من اللاجئين أن تنتج تحديات سياسية واقتصادية وإنسانية جديدة لتركيا التي تحاول أن توازن بين مصلحتها في إبعاد النظام عما تبقى من إدلب والحفاظ على علاقاتها مع روسيا وتفادي أي مواجهة خطرة.
وبعدما سيطرت قوات الحكومة على طريق دمشق حلب الدولي، يقول محللون إنها قد تسعى في أي هجوم مقبل إلى استعادة ما تبقى خارج سيطرتها من طريق “أم 4” الذي يربط مدينة حلب باللاذقية.
وفي حال شن هجوم جديد، ستطلب أنقرة مقابلا قد يكون، وفق ما يشرح بالانش، السماح لها بالسيطرة على مناطق كردية جديدة، بعدما كانت استولت على مناطق حدودية واسعة في ثلاث عمليات عسكرية شنتها ضد المقاتلين الأكراد.
ويرى بالانش أنه قد ينتهي الأمر بإدلب كمنطقة “تخضع للحماية التركية، وتسيطر عليها مجموعات إسلامية مثل هيئة تحرير الشام وتدير شؤون اللاجئين فيها، وستصبح في هذه الحالة أشبه بقطاع غزة جديد”.