في حوار للشاعر والكاتب والمترجم السوري أسامة إسبر حول قضايا الشعر والأدب والترجمة مع صحيفة “العرب” تحدث الشاعر السوري أسامة إسبر قائلاً: تعود بداياتي في الكتابة إلى مرحلة الدراسة الثانوية. كان أول نص كتبته هو قصيدة نثر أرسلتها في ذلك الوقت إلى جريدة السفير اللبنانية. وحين نُشرتْ بعد أسبوعين من إرسالها شعرتُ بسعادة غامرة، وقررت الدخول في هذا المجال.
كان هذا أول نص منشور لي. وكما تعلم، تتسم مرحلة البدايات بالتأثر والقلق والبحث عن الاستقلالية والصوت المختلف. في البداية شعرتُ بأنني أساير الأساليب الشعرية المهيمنة، ذلك أن جيلي نشأ في وقت تميز بصعودٍ شعري عربي ارتبط بالتطلعات الوطنية والقومية وتأثيرات مجلة “شعر” وبرزت أسماء كأدونيس ومحمود درويش ونزار قباني هيمنت أصواتها وأساليبها على اللغة الشعرية والأسلوب، أي أن تأثير هؤلاء الشعراء كان طاغيا.
في تلك المرحلة كنت مهتما بآراء إيليوت وخاصة رأيه حول كيفية تحرر الشاعر الشاب من التأثر بالأصوات الشعرية الكبيرة التي فرضت حضورها على الساحة، وتأجيل قراءتها حتى وقت لاحق.
تأثرت لغتي في البداية، لكنني حاولتُ تحريرها في ما بعد، ولم أنجح في ذلك إلا بعد فترة طويلة، وساعدتني في ذلك ممارستي للتصوير الفني الفوتوغرافي الذي حررني من طغيان اللغة على الصورة ونقلني إلى الشيء كمادة بصرية، وإلى الكتابة عن الأشياء في سياق بصري، في سياق وجودها المادي وما يوحي به، واكتشاف منظورات جديدة للكتابة الشعرية تربط هذه الأشياء بالثقافة، وبالتالي تحررت المفردة من ذاكرة اللغة الشعرية واندفعت إلى عناق الشيء في أفق بصري جديد، وهنا نشأت لحظة شعرية حاولت الاستفادة منها في ما أكتبه الآن، وكان ديواني الأخير “على طرقي البحرية” الصادر عن دار خطوط وظلال في الأردن، هو نتاج هذه التجربة الجديدة في التحرر.
كان الشعر بالنسبة إلي دوما محاولة لرؤية الواقع بشكل مختلف والتعبير عن هذه الرؤية، وبالتالي الكشف عن جوانب منسية أو مغفلة، ولكن السؤال المهم هو كيف يمكن رسم هذا الاختلاف ومنح خصوصية للتجربة من خلال الشكل الفني والأسلوب؟
كانت المجموعة الشعرية الأولى التي أصدرتها هي “ميثاق الموج” وأحدث مجموعة هي “على طرقي البحرية”. حين أعاود النظر في المجموعات القديمة تنتابني رغبة في التخلص أو التنصل من كثير من قصائدها. هناك قصائد كثيرة يثبتها المرء في كتابه أحيانا بسبب الحماس والاندفاع أو كون هذه القصيدة لاقت استحسانا، كما أن مرحلة الشباب تبحث عن تحقق سيكولوجي أو ذاتي من خلال كتاب منشور حتى دون أن تكون متأكدا من أهميته على الصعيد الفني، أو أنك تشعر بأن صوتك فيه يحاول أن يعلن عن نفسه ويتلمس أفقه.
وهنا تنبغي الإشارة إلى أن جيل الشباب دائما يصطدم بجدار النشر، إذ تغيب المؤسسات ودور النشر المهتمة بالإبداع الشعري ويلجأ كثيرون إلى طرق في الطباعة لا يخضع الكتاب من خلالها لرأي قراء يمتلكون خبرة نقدية، كما أن أغلبية الناشرين العرب ليس لديهم محررون مختصون.
ما أود قوله هو إن كل مجموعة شعرية هي محاولة للولادة، وبالتالي قد تكون الولادة موفقة أو غير موفقة، أحيانا يمكن أن تولد شعريا في مجموعة لا تعرف متى تكتبها، ولهذا أؤمن بأن كتابة الشعر هي بحث متواصل عن القصيدة، أي أنها لا تكتمل.
وحول المشهد الشعري العربي وهيمنة قصيدة النثر وتراجع الأشكال الشعرية الأخرى كالعمودي والتفعيلي يقول أسامة إسبر:
بالنسبة إلى المشهد الشعري، لا تزال النظرة إلى الشعر لدى قطاع واسع محكومة بأفكار تقليدية، كما أن الشعر الحديث منفي من المناهج التعليمية في الكثير من البلدان العربية. على صعيد آخر، حاولتُ التخلص من ظاهرة كانت موجودة بقوة في المشهد الشعري، فقد وقعت قصيدة النثر في أسر التباس المعنى، والغموض المستغلق، وأقصد بالتباس المعنى هنا هو أن اللغة هي أداة للتعبير عن الرؤية ويجب ألا تكون غاية في حد ذاتها.
وحول تأثير الترجمة على الأعمال الأدبية يقول إسبر:
لقد ترجمتُ عن الإنجليزية قصائد أحببتها لشعراء كثيرين، وفي أحدث ترجمة شعرية لي وهي مختارات لشعراء هنود حمر، أي لشعراء منحدرين من السكان الأصليين لأميركا، جمعتها في أنطولوجيا سأحاول إصدارها قريبا، اكتشفت الشعر من جديد، اكتشفتُ كيف تصغي اللغة إلى حفيف الأوراق وتنظر إلى لون التربة وتتأمل سقوط المطر وانعكاسات الأضواء الشاطئية أو على صفحة النهر، كيف تكون للنهر سيرة ذاتية، وللنبع ذاكرة ثقافية، كيف تعاود الطبيعة ولادتها في النص وكيف تتأكد قداستها فيه وكيف تتحول القصيدة إلى صوت خالق للأشياء وحام لها.
أثّر هذا في كثيرا في المرحلة الأخيرة، وصرت بعد قراءة هذه التجارب المهمشة والتي أغنت اللغة الإنجليزية وفتحت أفقا للشعرية بعيدا عن المؤسسات والجامعات. أفهم كتابة الشعر بطريقة مختلفة، لقد تحررتُ من الصراعات الأدبية الأيديولوجية، ومن اللغة التي لا تقول إلا نفسها، ومن فحولة اللغة، من طمسها لأشياء الواقع. أحاول أن أخترق هذه الزينة اللغوية، نحو صرخة الأشياء، أو صرخة اللغة في تحولها إلى صوت أو إيقاع للأشياء، هذا ما أصبو إليه.
الترجمة هي التي اختارتني، ولا أعدّ نفسي مترجما ولم أكن أطمح أبدا إلى أن أكون هكذا، لكن إيقاع الحياة يقودك أحيانا وتقع في المصيدة. اختارتني الترجمة حين كنت أكتب مجموعتي القصصية الأولى التي صدرت عن دار المدى بعنوان “السيرة الدينارية”، في ذلك الوقت كنت أقرأ لكتاب آخرين باللغة الإنجليزية وسحرتني قصص قصيرة محددة لكتاب مختلفين فشرعت في ترجمتها وصدرت وقتها في كتاب بعنوان “عشاق البحيرة”. ومن بعد اختارتني الترجمة عبر إدواردو غاليانو.
كان لي الشرف في تقديم هذا الكاتب الكبير في اللغة العربية، وكنت أول من ترجم كتابه وعرّف القراء العرب عليه، هو ومايكل أونداتجي وآلن لايتمان. شعرتُ كما لو أن هذا الكتاب اختارني كي أترجمه. كان كتابا ساحرا استطاع فيه غاليانو أن يقدم نصا أدبيا هو مزيج للأجناس الأدبية كلها مخترقا الحواجز والحدود التي ينصبها من يسميهم بضباط جمارك الأدب بين الأجناس. لقد أدهشني الكتاب إلى درجة أنني شعرتُ بأنني لا أستطيع مقاومة ترجمته”.
وعن حركة الترجمة في المجال الثقافي العربي اليوم يقول أسامة إسبر:
حركة الترجمة هي حركة تجارية في قسم كبير منها، مرتبطة بالسوق وبالكتب التي تحقق رواجا، وهذا لا ينطبق فقط على اللغة العربية بل على الكثير من لغات العالم. أحيانا تلعب الأحداث الكبرى والحروب دورا في تسويق الترجمة، وقد يكون السبب دعائيا وإعلاميا في الكثير من الأحيان، بمعنى أن هناك فرقا بين ترجمة غابرييل غارسيا ماركيز ووليم فوكنر ومايكل أونداتجي الذين أحدثوا نقلة نوعية في فن الرواية على صعيد الشكل الفني والرؤية، وبين ترجمة رواية مرتبطة بحدث كبير، لا لأنها أحدثت نقلة فنية على صعيد الكتابة وعمقت رؤيتنا للواقع أو الحدث، بل لأن هناك اهتماما إعلاميا أو تعاطفا مع الحدث.
كما أن هناك فرقا بين ترجمة لمفكر مثل تيري إيجلتون يتناول هذه الظاهرة في كتابه الذي ترجمتهُ وصدر في طبعة جديدة عن دار خطوط وظلال بعنوان “الإرهاب المقدس”، من منظور فكري وفلسفي وكاتب سياسي عادي.
وكما تعلم، نحن أسرى قراءة الغرب لنا، بمعنى أن الكتب الأكثر مبيعا وطلبا هي الكتب التي تتناول الأحداث التي نعيشها ولكنها مروية من منظور الآخرين، الذين لا يعرفون منطقتنا وثقافتنا معرفة دقيقة، كما أن نتاجهم يعتمد على آليات تسويقية ودعائية كبيرة قادرة على تحويلها إلى نصوص عابرة لحاجز الترجمة ومسوقة جيدا.
الكتب التي تتحدث عن الإرهاب والتطرف لا تكف عن التدفق من مطابع الغرب، ولكن ما يهمني هو الكتاب الذي يقدم قراءة عميقة لهذه الظاهرة، الكتاب المتحرر من النظرة الاستعلائية المركزية الغربية للآخر، والكاتب الذي يدعو إلى التحرر من النظرة الأوروبية التي تتحكم بالفكر الأكاديمي والبحثي في العالم، وينظر إلى أوروبا كأي بلد من بلدان العالم، وبالتالي يتحرر من قراءتها للعالم والتي تقود قراءات كثيرة. نحتاج إلى الكتاب الذي يحلل و يقرأ نقديا كي يكشف الحقيقة.
نبذة عن الشاعر:
الشاعر السوري المقيم في أميركا أسامة إسبر يملك تجربة ثرية في عطائها الإبداعي حيث يجمع ما بين كتابة الشعر والقصة القصيرة والترجمة، وفي جميعها تتجلى خصوصية رؤيته، ففي الشعر قدم نصا مكثفا وعميقا في تشكيلاته المجازية، وفي القصة اشتبك نصه مع قلق الوجود وبحث الذات عن كينونتها في عالم يضج بالتخبط، أما الأعمال التي ترجمها عن الإنجليزية فحملت الكثير من رؤاه وأفكاره.
صدرت له أربع مجموعات شعريّة هي “شاشات التاريخ”، “ميثاق الموج”، “تتكرر فوق المنفى”، و”حيث لا يعيش”، ومجموعتان قصصيتان هما “السيرة الدينارية” و”مقهى المنتحرين”. ومن أحدث ترجماته “الكاتدرائية” لريموند كارفر، رواية “أسنان بيضاء” لزيدي سميث، “الفناء الإسمنتي” لإيان مكيوان، ورواية “التراب الأميركي” لجينين كمنز، ورواية “كندا” لرتشارد فورد ورواية “توقيعه على الأشياء كلّها” لإليزابيث جلبرت و”الكتب في حياتي” لهنري ميلر.