أشار الباحث اللبناني خالد زيادة صاحب كتاب “المسلمون والحداثة الأوروبية” في سينمار “دراسة الهوية: مصر نموذجاً”، الذي نظّمه الثلاثاء فرعُ “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في بيروت،إلى أن تعبير الوطنية برز عربياً منذ ستينيات القرن التاسع عشر، إذ نجده لدى رفاعة الطهطاوي في كتابه “مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية” (1869)، كما نجده في العديد من محاضرات بطرس البستاني التي تناول فيها الوطن السوري والعروبة، حيث نشأت الوطنية في ظلّ عوامل مختلفة صاغت هذا المدى الذي يمكن اعتباره “الوطن”، ومنها الإدارة الحديثة، وتمثيل الأقاليم والمحافظات، وصولاً إلى الدستور.
وبخصوص الدور الذي تلعبه الثورات، عاد إلى ثورة عرابي عام 1879 التي قامت ضد العناصر غير المصرية في الجيش المصري، كالشركس والأتراك، حيث ساهمت في بلورة وطنيةٍ ما، ثم ثورة 1919 التي ثبّتت ركائز الوطنية المصرية، وبين الثورتين أُنشئ العديد من الأحزاب، وكلّها تدور حول فكرة الوطن المصري وفكرة شعبٍ له سمات محددة.
ولفت صاحب كتاب “تطوّر النظرة الإسلامية إلى أوروبا” إلى أن فكرة العروبة في المشرق ظهرت وكأنها في تضادّ مع العثمانية، وهو ما لا نجد نظيره في المغرب، حيث كانت العروبة ذات اتصال وثيق بالإسلام، وحيث لعبت جمعيات دينية إصلاحية دوراً في نشوء الحركة الوطنية. وأوضح أن صياغة الفكرة الوطنية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت على يد المثقفين الذين كانوا على اتصال مع الثقافة الغربية عن طريق البعثات الدراسية في أوروبا والترجمات، وتعرّف هؤلاء المثقفون إلى التاريخ الإسلامي والحضارة العربية من خلال الباحثين الأوروبيين.
وتوقّف كذلك عند الاكتشافات الأثريّة في مصر ولبنان وسورية والعراق، التي تركت أثراً كبيراً في صياغة الأفكار الوطنية، وأوجدت أسساً صلبة تستند إلى العُمق التاريخي، فيما بقيت الحضارة الفرعونية تلعب دوراً في الهوية الوطنية المصرية (خلافاً لانبعاثات أخرى خفتت مثل الفينيقية في لبنان)، مع وجود تعقيد في التعامل مع التاريخ الأقرب، قياساً في التاريخ الأبعد، حيث تمّ تحييد دور الأسرة العلوية بعد حركة تموز/ يوليو عام 1952.
وبيّن السفير اللبناني الأسبق في القاهرة أن اللغة العربية لعبت دوراً مهمّاً في تحديد الشخصية الوطنية والهوية القومية، مع الفارق بين الأمريْن أو التنافر بينهما أحياناً، حيث شكّلت عامل توحيد لكنها أيضاً كانت عامل خلافٍ ونزاع في بعض البلدان، كما في العراق بين الكردية والعربية، أو الأمازيغية والعربية في المغرب، وكذلك الحماس الذي برز في فترة ماضية حول اللهجات الدارجة في مصر ولبنان ثم خفوته لاحقاً. ومع ذلك، تسلّلت العاميّة إلى المسرح والغناء، وبات الميل إلى استخدامها اليوم أوسع، بعد هيمنة الفصحى لعقود ماضية.
وتمّ استبعاد الدين، بحسب المحاضر، من عناصر الهوية في المشرق العربي، بداية القرن العشرين، من دون الذهاب إلى تبنّي علمانيةٍ مطلقة. وظلّ الدين محور نقاش حول مقدار ما يلعبه من دور في تحديد الهوية الوطنية، كما كان أحياناً موضع تساؤل، خصوصاً في البلدان التي تضمّ مكوّنات مختلطة، مثل العراق ومصر.
وحول الحالة المصرية، أشار زيادة إلى دور المؤرخين في نشأة الروح الوطنية، مثل عبد الرحمن الرافعي وسلسلة مؤلّفاته حول تاريخ مصر الحديث منذ دولة محمد علي، ومن قبله محمد صبري (المعروف بالسوربوني)، معتبراً أن ثورة 1919 كرّست الوطنية المصرية ولم تعد الفكرة القومية العربية موضع نقاش، حيث تمّت صياغة هذه الوطنية في الفترة التي تُعرف بـ”الفترة الليبرالية” مع طروحات حسين مؤنس وشفيق غربال وغيرهما ممن تأثّروا بالعلوم الإنسانية الحديثة وحاولوا استيعاب الحضارات السابقة للوصول إلى سياق تاريخي مشترك.
ومن جانبه أوضح الباحث السوري محمد جمال باروت وفي مداخلته، أن “الهوية المتجانسة عبارة عن خرافة لا أكثر، وحتى الهويات التي تعتقد نفسها متجانسة نجد عند تفكيكها أنها تقوم على نظم رمزية أنثروبولوجية وثقافية مركّبة ومتعدّدة، فإذا نظرت إلى الهوية التونسية تجدها في الظاهر هوية متجانسة لكن إذا ما فككتها ستجد أنها جماع عدد هائل من الأنظمة التي تشكّلها، وأظن أن هذا ينطبق أيضاً على حالة مصر”، لافتاً إلى أن هناك فرقاً ما بين الإثنية، وهي جانب من الهوية، وبين قومنتها، فالقومنة هي التي تعطى معنى سياسياً للإثنية. ومن جهة أخرى، فإن القومية الفرعونية أقرب إلى القوميات الأركيولوجية التي بعثتها حركة الاكتشافات الأثرية، ثم أُسقطت عليها الخيالات الأيديولوجية والسياسية المعاصرة وتمّت قومنتها.