في عام 1995صدر لإدوارد سعيد عملان متتابعان يشرح فيهما مواقفه من “عملية السلام” التي بدأت مع نهاية “الانتفاضة الأولى” وأفضت إلى معادلات جديدة للقضية الفلسطينية. عملان صدرا في مصر عن “دار المستقبل العربي” حمل الأول عنوان “غزة – أريحا: سلام أميركي” والثاني عنوان “أوسلو 2: سلام بلا أرض”، وهما أقرب إلى كتاب واحد في جزأين.
يشير سعيد، في مقدّمة “غزة – أريحا: سلام أميركي”، إلى أنه يتوجّه لأول مرة “للقارئ العربي في المقام الأول” وأن هذا الكتاب هو أول عمل له عن القضية الفلسطينية يظهر بالعربية في إشارة تُبطن عتاباً للثقافة العربية التي كانت تنقل أعماله قياساً على درجة شهرتها الأكاديمية في الغرب، وقد أخلفت بذلك ترجمة مؤلفات خصّصها سعيد لفلسطين، أشهرها كتاب “مسألة فلسطين” الذي صدر في 1992. مرّت ثلاثة عقود والعمل لم يصل إلى العربية إلى يوم الناس هذا!
يجمع سعيد في كل كتاب اثني عشر مقالاً كان قد نشرها بطلب من جرائد عربية يبدي رأيه في مسار “السلام العربي – الإسرائيلي” في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي. مقالات يبدو فيها صاحب كتاب “الاستشراق” راديكالياً وحاداً في إعلان استيائه من كيفية إدارة مجريات الصراع من زاوية عربية.
يشير إدوارد سعيد إلى أن هذا الاستسلام غير ضروري، ومنه يستنتج أن “العرب قد فقدوا على ما يبدو إرادة المقاومة” وأن آمالهم باتت معلقة على عطف الأميركان وحسن نواياهم وخلال مقالات الكتاب لم يأل سعيد جهداً في وضع هذه الآمال العربية أمام مرآة الحقيقة الصادمة، فالثقة في السياسات الأميركية لم تكن إلا مقدّمة للتنازلات المتتالية ودخول مسار طويل من التفريط في الحقوق.
كما يعرّج سعيد على تعدّد مستويات “معضلة اتفاقيات السلام”، فهي من جهة عبارة عن تبنّ أعمى لمنظور أميركي (إسرائيلي من وراء ذلك) يحدّد مواصفات الواقع، ويقصي الكثير من الأوراق من طاولة المفاوضات بسبب مرجعيته في تحديد ما هو ممكن وما هو غير ممكن. يُظهر سعيد عناية خاصة بمسألة “تزييف الواقع” واستعمالات “الواقع المغشوش” لتمرير أجندات الاحتلال، حتى أنه كتب في مقدّمة الكتاب: “لا أظنّني كنتُ مستطيعاً الكتابة لولا إحساس عميق بأهمية أن يظلّ المرء قابضاً على الحقيقة، وألا يترك الساحة خالية أمام لغة النفاق والرياء وخداع الذات”، وهو بذلك يلفتنا إلى شكل من أشكال المقاومة الصالحة لكل زمان.
على صعيد آخر، ينتقد سعيد فساد علاقة الوكالة التي تربط الشعوب العربية بقياداتها. يقول: “لا ينبغي أن نسمح لحفنة من قادتنا أن يقرروا الالتفاف حول الماضي والإذعان لهذا الواقع المزعوم. إن صياغة هذا الواقع ومناقشته هي مهمة كل من يعنيه الأمر من المواطنين والمثقفين وأنصار القضية”. لقد كان سعيد يشعر بأن دوّامة الاتفاقيات قد أنتجت حالة من الانفضاض من حول القضية تمثّل سبباً جديداً من أسباب الهزيمة وإعادة إنتاجها.
اعتمد إدوارد سعيد لهجة ساخرة قوامها الصورة الذهنية ــ الكاركاتيرية. فعل ذلك كلما أراد تمرير تصوّراته حول التعامل العربي مع القضية، فيشير مثلاً إلى أن حكّام “إسرائيل” باتوا هم من يقودون الحكام العرب “واحداً تلو الآخر إلى واشنطن للركوع والاعتذار”، أو حين يقول: “كان الله في عون العديد من الحكّام العرب فقد اشتروا – من خلال التودّد لإسرائيل والولايات المتحدة – مُهلة زمنية غير طويلة فيما سيجدون أنفسهم قريباً جداً مضطرّين لمواجهة المشاكل الاجتماعية والمعنوية الحادة التي أرجأوا التعامل معها وتجاهلوا وجودها زمناً طويلاً”، لكأنه يتحدّث عن نظام مبارك – وغيره من الأنظمة العربية – ومآلاته في 2011.